تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

الوصف المناسب يدل على علية الوصف للحكم ، فالآية دلت على أن هذا الجرم المخصوص علة لحصول هذا الزاجر المخصوص. وقال أبو حنيفة : إن الواجب فيه التعزير لأنه فرج لا يجب المهر بالإيلاج فيه فلا يجب الحدّ كإتيان البهيمة ، وعلى الأول ففي عقوبة الفاعل قولان : أحدهما أن عقوبته القتل محصنا كان أو لم يكن لما روي انه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول» (١) وأصحهما أن حده حد الزنا فيرجم إن كان محصنا ويجلد ويغرب إن لم يكن محصنا لأنه حد يجب بالوطء ، ويختلف فيه البكر والثيب كالإتيان في القبل. وعلى قول القتل فيه وجوه أحدها : يقتل بالسيف كالمرتد ، والثاني وبه قال مالك وأحمد يرجم تغليظا ، ويروى عن علي عليه‌السلام أيضا. والثالث يهدم عليه جدار أو يرمى من شاهق جبل ليموت أخذا من عذاب قوم لوط. وأما المفعول فإن كان صغيرا أو مجنونا أو مكرها فلا حد عليه ولا مهر لأن منفعة بضع الرجل لا تتقوم ، وإن كان مكلفا طائعا فيقتل بما يقتل به الفاعل إن قلنا إن الفاعل يقتل ، وإن قلنا يحد حد الزنا فيجلد ويغرب محصنا كان أو لم يكن ، وإن أتى امرأة في دبرها ولا ملك ولا نكاح فالأظهر أنه لواط لأنه إتيان في غير المأتي ويجيء في الفاعل والمفعول ما ذكرنا. وقيل : إنه زنا لأنه وطء أنثى فأشبه الوطء في القبل فعلى هذا حده حد الزنا بلا خلاف. وترجم المرأة إن كانت محصنة. وإذا لاط بعبده فهو كالأجنبي على الأصح ولو أتى امرأته أو جاريته في الدبر فالأصح القطع بمنع الحد لأنها محل استمتاعه بالجملة.

التأويل : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ) معجزة الخواص أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر عشراء بسقب سر السر وهو الخفي. وناقة الله هي التي تحمل أمانة معرفته وتعطي ساكني بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية ، (فَذَرُوها) ترتع في رياض القدس وحياض الإنس (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بالانقطاع عن مواصلات الحقيقة. (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) مستعدين للخلافة (وَبَوَّأَكُمْ) في أرض القلوب (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها) وهي المعاملات بالصدق والإخلاص (قُصُوراً) في الجنان (وَتَنْحِتُونَ) من جبال أطوار القلب (بُيُوتاً) هي مقامات السائرين إلى الله (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) النعماء والإخلاص. فالأول يتضمن ترويح الظاهر ، والثاني يوجب تلويح السر. فالترويح بوجود المسار والتلويح بشهود الأسرار (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ) القلب بالفساد للاستعداد الفطري (الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) هم الأوصاف البشرية

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الحدود باب ٢٤. ابن ماجه في كتاب الحدود باب ١٢.

٢٨١

والأخلاق الذميمة (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) من أوصاف القلب والروح. (أَتَعْلَمُونَ) أن صالح الروح (مُرْسَلٌ) بنفخة الحق إلى بلد القلب وساكنيه ليدعوهم من الأوصاف السفلية لظلمانية إلى الأخلاق العلوية النورانية (فَعَقَرُوا) أي النفس وصفاتها ناقة سر القلب بسكاكين مخالفات الحق (فَأَخَذَتْهُمُ) رجفة الموت (فَأَصْبَحُوا) في دار قالبهم (جاثِمِينَ) والله العزيز.

تم الجزء الثامن ويليه الجزء التاسع أوله : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) ....

٢٨٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء التاسع من أجزاء القرآن الكريم

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣))

القراءة كما مر.

الوقوف : (شُعَيْباً) ط (غَيْرُهُ) ط (إِصْلاحِها) ط (مُؤْمِنِينَ) ج ه لعطف المتفقتين أو وقوع العارض أو رأس الآية (عِوَجاً) ج لاتفاق الجملتين مع طول الكلام (فَكَثَّرَكُمْ) ج لعطف المتفقتين (الْمُفْسِدِينَ) ه (بَيْنَنا) ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف (الْحاكِمِينَ) ه (مِلَّتِنا) ط (كارِهِينَ) ه وقيل لا وقف لأن الابتداء بقوله و (قَدِ افْتَرَيْنا) قبيح قلنا إذا كان محكيا عن شعيب كان أقبح ولكن الكلام معلق بشرط يعقبه. (مِنْها)

٢٨٣

ط (اللهِ) ط (رَبُّنا) ط (عِلْماً) ط (تَوَكَّلْنا) وللعدول (الْفاتِحِينَ) ه (لَخاسِرُونَ) ه (جاثِمِينَ) ه ج إن وصل وقف على (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) على جعل (الَّذِينَ) بدلا من الضمير في (فَأَصْبَحُوا) و (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا) حال لمعنى الفعل في الجاثمين. وإن جعل (الَّذِينَ) مبتدأ خبره (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا) وقف على (جاثِمِينَ) وعلى (فِيهَا) ومن لم يقف على (فِيهَا) وجعل (الَّذِينَ) بدلا من (الَّذِينَ) الأول وقف على (شُعَيْباً) ويستأنف بـ (كانُوا) ولا يخلو من تعسف. (الْخاسِرِينَ) ه (وَنَصَحْتُ لَكُمْ) ط لأن (فَكَيْفَ) للتعجب فيصلح للابتداء مع أن فيه فاء التعقيب. (كافِرِينَ) ه والله أعلم.

التفسير : القصة السادسة قصة شعيب ومدين اسم البلد. وقيل : اسم القبيلة لأنه شعيب بن توبب بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه ، وذلك أنه أمرهم بأشياء : الأوّل : عبادة الله ، أمرهم بها ونهاهم عن عبادة غير الله وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء. الثاني : تصديق ما ادعاه من النبوّة وأشار إليه بقوله (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ) أي معجزة دالة على نبوّتي. ففي الآية دلالة مجملة على أن لشعيب معجزة ظاهرة كما ينبغي لكل مدعي نبوّة وإلا كان متنبئا ، غير أن معجزته لم تذكر في القرآن كما لم يذكر أكثر معجزات نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه. يحكى أنه دفع إلى موسى عصاه وتلك العصا ربت التنين وأيضا قال لموسى : إن هذه الأغنام تلد أولادا عنقها أسود وسائرها أبيض وقد وهبتها منك وكان الأمر كما أخبر. وكل ذلك قبل أن يستنبأ موسى. فقال أهل السنة : إن هذه الأمور علامات نبوّة موسى ويسمى إرهاصا. وقالت المعتزلة : إنها معجزات شعيب بناء على أن الإرهاص عندهم غير جائز. الثالث قوله (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ) الآية. واعلم أن للأنبياء عليهم‌السلام أن يبدأوا في الموعظة بما يكون قومهم مقبلين عليه. وكان قوم شعيب مشغوفين بالبخس والتطفيف فكأنه يقول : البخس عبارة عن الخيانة بالشيء القليل وهو أمر مستقبح في العقول ومع ذلك فقد جاءت البينة والشريعة الموجبة لتحريمه فلم يبق لكم فيه عذر فأوفوا الكيل والميزان. قال في الكشاف : لم يقل المكيال والميزان كما في سورة هود لأنه أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال ، أو سمى ما يكال به بالكيل كما قيل العيش لما يعاش به ، أو أريد فأوفوا الكيل ووزن الميزان ، أو الميزان مصدر كالميعاد والميلاد. الرابع (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) يقال : بخسته حقه إذا نقصته إياه ومنه قيل للمكس البخس. وفي المثل تحسبها حمقاء وهي باخس. قال ثعلب : وإن شئت قلت باخسة وذلك بتأويل الإنسان أو النسمة يضرب لمن لا يعبأ به وفيه دهاء وجربزة. خص أولا ثم عمم ليشمل جميع أنواع الظلم كالغصب

٢٨٤

والسرقة وأخذ الرشوة وقطع الطريق وانتزاع الأموال بوجوه الاحتيال. يروى أنهم كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه ، وكانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطعا ثم أخذوها بنقصان ظاهر وأعطوه بدلها زيوفا. الخامس (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) وهذا أعم من البخس لشموله الأموال والأعراض والنفوس وكل ما يوجب مفسدة دنيوية أو دينية. والمعنى بعد إصلاح أهلها على حذف المضاف أو هو كقوله (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] أي بعد الإصلاح فيها يعني إصلاح الصالحين من الأنبياء ومتابعيهم العالمين بشرائعهم (ذلِكُمْ) الذي ذكر من الأمور الخمسة (خَيْرٌ لَكُمْ) في الإنسانية وحسن الأحدوثة وزيادة البركة لرغبة الناس في متاجرتكم عند اشتهاركم بالأمانة والديانة. ولا يخفى أن حاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مصدقين لي في قولي. ثم فصل بعض ما أجمل فقال (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) قيل : الصراط حقيقة وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطرق والمراصد كما كانت تفعل قريش بمكة يخوّفون من آمن بشعيب ويقولون إنه كذاب لا يفتنكم عن دينكم ، أو كانوا يقطعون الطرق أو كانوا عشارين. وقيل : إنه مجاز عن الدين أي لا تقعدوا على طريق الدين ومنهاج الحق لأجل أن تمنعوا الناس عن قبوله اقتداء بالشيطان حيث قال (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف : ١٦] ودليل هذا المجاز قوله (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يقال : قعد بمكان كذا أي التصق به ، وعلى مكان كذا أي علا ذلك المكان وفيه إذا حل ، فحروف الجر تتعاقب في مثل هذا الموضع لتقارب معانيها. ومحل (تُوعِدُونَ) وما عطف عليه نصب على الحال ، نهاهم عن القعود على صراط الله حال الاشتغال بأحد هذه الأفعال. وإنما قال (بِكُلِّ صِراطٍ) مع أن صراط الحق واحد لأنه يتشعب إلى معالم وحدود وأحكام كثيرة كل منها في نفسه سبيل ، وكانوا إذا رأوا أحدا يشرع فيها أوعدوه وصدوه. والضمير في (بِهِ) راجع إلى كل صراط والتقدير : توعدون من آمن به وتصدون عنه فوضع الظاهر موضع الضمير زيادة في التقبيح والتفظيع. ومعنى (وَتَبْغُونَها) تطلبون لسبيل الله (عِوَجاً) أي تصفونها للناس بأنها معوجة وذلك بإلقاء الشكوك والشبهات. قال في الكشاف : أو يكون تهكما بهم وأنهم يطلبون لها ما هو محال لأن طريق الحق لا تعوج. ثم ذكرهم نعم الله تعالى لأن ذكر النعم مما يحمل على الطاعة ويبعد عن المعصية فقال (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ) أي وقت كونكم (قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) قال الزجاج يحتمل كثرة العدد بعد القلة وكثرة الغنى بعد الفقر وكثرة القدرة والشدة بعد الضعف والذلة. قيل : إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها

٢٨٥

بالبركة والنماء وصاروا كثيرا في العدة والعدة والشدّة. ثم حذرهم سوء عاقبة من أفسد قبلهم من الأمم وكانوا قريبي العهد مما أصاب المؤتفكة فقال (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) رغبهم أولا ثم رهبهم ثانيا وأكد الترهيب بقوله (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ) الآية. وفيه وعيد للكافرين ووعد للمؤمنين وحث لهم على الصبر على ما يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم بمقتضى العدل والحكمة خير الحاكمين. ثم حكى جواب قومه المحجوجين المستكبرين وذلك قولهم (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي أحد الأمرين كائن لا محالة إما إخراجكم وإما عودكم إلى الكفر. وهاهنا سؤال وهو أن الكفر على الأنبياء محال فكيف يتصور عوده إليه؟ وهب أن قول الكفار ليس حجة أليس قول شعيب حجة حيث قال (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ)؟ وأجيب بأن الكلام بني على التغليب ، وأن شعيبا أراد عود قومه إلا أنه نظم نفسه في جملتهم لما ذكرنا ، أو لعل رؤساءهم قالوا ذلك تلبيسا على القوم وشعيب أجرى كلامه على وفق ذلك ، أو أنه كان في أوّل أمره يخفي مذهبه فتوهموا أنه على دينهم ، أو أريد بالملة الشريعة التي صارت منسوخة بشرعه ، أو يطلق العود على الابتداء كقوله :

وإن تكن الأيام أحسنّ مرّة

إليّ فقد عادت لهن ذنوب.

قال شعيب في جوابهم (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) الهمزة للاستفهام والواو للحال والتقدير : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهيتنا؟. ثم صرح بأنه لا يفعل ذلك فقال (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً) إن فعلنا ذلك وذلك أن أصل الباب في النبوة والرسالة صدق اللهجة والبراءة عن الكذب والعود في ملتكم ينافي ذلك. ومعنى قوله (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) بعد أن علمنا قبحه وفساده ونصب الأدلة على بطلانه ، أو المراد نجى قومه فغلب ، أو المراد على حسب زعمكم ومعتقدكم كما مر. قال في الكشاف : وقوله (قَدِ افْتَرَيْنا) إخبار مقيد بالشرط وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون كلاما مستأنفا فيه معنى التعجب كأنهم قالوا : ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام لأن الارتداد أعظم من الكفر حيث إن المرتد يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل وكفره أزيد. والثاني أن يكون قسما على تقدير حذف اللام معناه والله لقد افترينا على الله كذبا (وَما يَكُونُ لَنا) أي ما ينبغي لنا وما يصح (أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) قال أهل السنة : في الآية دلالة على أن المنجي من الكفر هو الله تعالى وكذا المعيد إليه قال الواحدي : ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ، ألا ترى إلى قول الخليل عليه‌السلام (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] وكثيرا ما كان يقول

٢٨٦

نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك» (١) وقال يوسف (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) [يوسف : ١٠١] أجابت المعتزلة بوجوه : الأوّل : أن قوله (إِلَّا أَنْ يَشاءَ) قضية شرطية أي إن شاء يعد وليس فيه بيان أنه شاء أم أبى. الثاني : أن هذا على طريق التبعيد والإحالة. كما يقال لا يفعل ذلك إلا إذا ابيض القار وشاب الغراب. الثالث : لعل المراد ما لو أكرهوا على العود فإن إظهار الكفر عند الإكراه جائز وإن كان الصبر أفضل وما كان جائزا صح أن يكون مراد الله تعالى كما أن المسح على الخفين مراد الله وإن كان غسل الرجلين أفضل. الرابع : يحتمل أن يعود الضمير في (فِيهَا) إلى قرية. كأنه قال : إن أخرجتمونا من القرية حرم علينا العود فيها إلا بإذن الله تعالى. الخامس : المشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل فإنه تعالى يريد الكفر من الكافر ولا يجوز فعله إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر فيحتمل أن يراد بالمشيئة هاهنا الأمر فيكون التقدير : إلا أن يأمر الله أن نعود إلى شريعتكم المنسوخة ، فإن الشرع المنسوخ لا يبعد أن يأمر الله تعالى بالعمل به مرة أخرى. السادس : قال الجبائيّ : المراد من الملة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصوم والصلاة ، فمن الجائز أن يكون بعض أحكام الشريعة المنسوخة باقيا فيكون المعنى إلا أن يشاء الله إبقاء بعض تلك الملة فيدلنا عليها. ثم إن المعتزلة تمسكوا بالآية على صحة قولهم من وجهين : أحدهما : أن قوله (وَما يَكُونُ لَنا) معناه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود وذلك يقتضي أن كل ما شاء تعالى وجوده كان فعلا جائزا مأذونا فيه ، وما كان حراما ممنوعا منه لم يكن مراد الله تعالى. وثانيهما : أن قوله (لَنُخْرِجَنَّكَ) أو (لَتَعُودُنَ) لا وجه للفصل بينهما فإن كان العود بخلق الله كان الإخراج أيضا بخلقه. قلت : للسني أن يلتزم ذلك. أما قوله (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ) فوجه تعلقه بما تقدمه على قول الجبائيّ هو أن التكليف بحسب المصالح فيكون معنى قول شعيب إلا أن يشاء الله إلا أن تختلف المصلحة في تلك العبادات فحينئذ يكلفنا بها والعلم بالمصالح لا يكون إلا بأن وسع كل شيء علما. وقالت الأشاعرة : وجه التعلق هو أن القوم لمّا قالوا لنخرجنك أو لتعودن قال شعيب (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فربما كان في علمه قسم ثالث : وهو أن يبقينا في القرية مؤمنين ويجعلكم مقهورين خاسرين ويؤكد هذا التفسير قوله عقيب ذلك (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أي لا على غيره. وانتصاب (عِلْماً) على التمييز. وفي قوله (وَسِعَ) بلفظ الماضي دلالة على أنه تعالى كان في الأزل عالما بجميع

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب القدر باب ٧. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢ / ٤ ، ٨) ، (٣ / ١١٢).

٢٨٧

المعلومات فلا يخرج عن شيء عن مقتضى علمه وهو معنى جفاف الأقلام وطي الصحف ولزوم الأحكام وسعادة السعيد وشقاوة الشقي ويعلم من عموم كل شيء أنه علم الماضي والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف يكون. فهذه أقسام أربعة يقع كل منها على أربعة أوجه لأنه علم الماضي كيف كان ، وعلم أنه لو لم يكن ماضيا بل كان حالا أو مستقبلا أو معدوما محضا فإنه كيف يكون ، وكذا الكلام في الأقسام الأخر فيكون المجموع ستة عشر. وإذا اعتبر كل منها بحسب كل جنس أو نوع أو صنف أو شخص من الجواهر أو الأعراض صار مبلغا تتحير فيه عقول العقلاء بل تقف دون أوّل قطرة من قطرات بحاره. ثم إن شعيبا لما أعرض عن الأسباب وارتقى بطريق التوكل إلى مسببها ختم كلامه بالدعاء قائلا (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : احكم واقض. وعن ابن عباس : ما أدري ما معناه حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : تعالى أفاتحك أي أحاكمك. وجوز الزجاج أن يكون معنى الآية أظهر أمرنا حتى يتضح وينكشف ما بيننا وبين قومنا. والمراد أن ينزل عليهم عذابا يدل على كونهم مبطلين وعلى كون شعيب وقومه محقين. ثم أثنى على الله بقوله (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) كما قال (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) قالت الأشاعرة : الإيمان فتح باب الخيرات وهو أشرف صفات المحدثات ، فلو كان موجد الإيمان هو العبد كان خير الفاتحين هو العبد. وللمعتزلة أن يقولوا : لو لا ألطافه المرجحة الداعية لم يوجد الإيمان من العبد فصح أن الله هو خير الفاتحين. ثم بيّن أن رؤساء قوم شعيب لمن يقتصروا على الضلال بل بادروا إلى الإضلال قائلين لمن دونهم (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) أي في الدين أو في الدنيا لأنه يمنعكم من ازدياد الأموال بطريق البخس والتطفيف (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) قد سبق تفسيرها (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) يقال غني القوم في دراهم إذا طال مقامهم فيها. والمغاني المنازل إذا كان فيها أهلها. وقال الزجاج : أي كأن لم يعيشوا فيها مستغنين من الغنى الذي هو ضد الفقر. وعلى التفسيرين شبه حال المكذبين بحال من لم يكن قط في تلك الديار كقوله : كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر. قال في الكشاف (الَّذِينَ كَذَّبُوا) مبتدأ خبره (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا) وكذلك (كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل : الذين كذبوا شعيبا هم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في ديارهم لأن الذين اتبعوا شعيبا قد أنجاهم الله (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) هم المختصون بالخسران العظيم دون أتباعه فإنهم الرابحون ، وفي هذا الاستئناف والابتداء والتكرير مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم

٢٨٨

وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم. قلت : والعرب قد تكرر للتفخيم والتعظيم فتقول : أخوك الذي ظلمنا أخوك الذي أخذ أموالنا أخوك الذي هتك أعراضنا. وأيضا إن القوم لما قالوا (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) بيّن الله تعالى أن الذين لم يتبعوه وخالفوه هم الخاسرون. وفي الآية فوائد أخرى منها : أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار وليس ذلك أثر الكواكب والطبيعة وإلا حصل في أتباع شعيب كما حصل في حق الكفار. ومنها أن ذلك الفاعل عليم بالجزئيات حتى يمكنه التمييز بين المطيع والعاصي. ومنها أن يكون معجزة لشعيب حيث وقع ذلك العذاب على قوم دون قوم مع كونهم مجتمعين في بلد واحد (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) قد تقدم أن هذا التولي جائز أن يكون قبل نزول العذاب وجائز أن يكون بعده. قال الكلبي : خرج من بينهم ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بين أظهرهم. ولما اشتد حزنه على قومه من جهة الوصلة والقرابة والمجاورة وطول الإلفة لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الإجابة للإيمان عزّى نفسه وقال (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) لأنهم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر. والأسى شدة الحزن. وقيل : المراد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصيحتي فكيف آسى عليكم لأنكم لستم مستحقين لذلك؟.

التأويل : (وَلا تَبْخَسُوا) فيه أن البخاسة والدناءة والحرص والظلم من الصفات التي يجب تزكية النفس عنها فإن الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها. (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أرض الطبيعة التي جبل الإنسان عليها (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) لا تقطعوا الطريق على الطالبين بأنواع الحيل والمكايد. (إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) بالتناصر والتعاون في الأمور وبكثرة العدد والعدد نعمة تامة يجب أن تصرف في إعلاء كلمة الدين (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ) أي الروح والقلب (وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) وهم النفس وصفاتها (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لا يجعل الروح والقلب المؤمنين تبعا للنفس الكافرة في العذاب وإذاقة ألم الهجران (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) إشارة إلى أن كل جنس لا يميل إلا إلى أشكاله وإلا وجد في إيابه من يأمن نهج أضرابه (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) في القسمة الأزلية (افْتَحْ بَيْنَنا) احكم بيننا وبينهم بإظهار حقيقة ما قدرت لنا من خاتمة الخير وإظهار ما قدرت لهم من خاتمة السوء (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) فصارت صورتهم تبعا لمعناهم فإنهم كانوا جاثمي الأرواح في ديار الأشباح (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) لأن الباطل زاهق لا محالة.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا

٢٨٩

مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢))

القراآت : (لَفَتَحْنا) بالتشديد : ابن عامر ويزيد (أَوَأَمِنَ) بسكون الواو : أو جعفر ونافع غير ورش ، وابن عامر وابن كثير غير ابن فليح ، وقرأ ورش بنقل حركتها إلى الساكن قبلها أولم نهد النون حيث كان : زيد عن يعقوب. الباقون : بالياء التحتانية (رُسُلُهُمْ) بسكون السين حيث كان : أبو عمرو.

الوقوف : (يَضَّرَّعُونَ) ه (لا يَشْعُرُونَ) ه (يَكْسِبُونَ) ه (نائِمُونَ) ه لمن قرأ (أَوَأَمِنَ) بفتح الواو على أن الهمز للاستفهام ، ومن سكن الواو فلا وقف لأن «أو» للعطف (يَلْعَبُونَ) ه (مَكْرَ اللهِ) ج للفصل بين الإخبار والاستخبار مع أن الفاء للتعقيب. (الْخاسِرُونَ) ه (بِذُنُوبِهِمْ) ج للفصل بين الماضي والمستقبل والتقدير : نحن نطبع مع اتحاد القصة. (لا يَسْمَعُونَ) ه (مِنْ أَنْبائِها) ج لعطف المختلفتين (بِالْبَيِّناتِ) ط لأن ضمير (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) لأهل مكة وضمير. جاءهم للأمم الماضية مع أن الفاء توجب الاتصال (مِنْ قَبْلُ) ط (الْكافِرِينَ) ه (مِنْ عَهْدٍ) ج لعطف الجملتين المختلفين (لَفاسِقِينَ) ه.

التفسير : إنه سبحانه لما عرّفنا أحوال هؤلاء الأنبياء وما جرى على أممهم ذكر ما يدل على أن هذا الجنس من الهلاك قد فعله بغيرهم وليس مقصورا عليهم ، وبيّن العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعل. والقرية مجتمع القوم فتشمل المدينة أيضا وتقدير الكلام : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء. قال الزجاج : البأساء الشدة في الأموال والضراء الأمراض في الأبدان. وقيل بالعكس (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) أي يتضرعون فأدغم التاء في الضاد والمعنى : ليحطوا أردية التعزز والاستكبار ويتبعوا نبيهم. ثم بيّن أن

٢٩٠

تدبيره في أهل القرى لا يجري على نمط واحد فقال (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ) وهي كل ما يسوء صاحبه (الْحَسَنَةَ) وهي ما يستحسنه الطبع والعقل أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من الفقر والضر والسعة والصحة (حَتَّى عَفَوْا) كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم من قولهم عفا النبات والشحم والوبر ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأعفوا اللحى» (١) (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) كما هو دأب الأشرين يقولون هذه عادة الدهر في أهله يوم محنة ويوم منحة. والمراد أنهم لم ينتفعوا بتدبير الله تعالى فيهم من رجاء بعد شدّة وأمن بعد خوف وراحة بعد عناء (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) آمن ما كانوا عليه ليكون ذلك أعظم من الحسرة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بنزول العذاب. والحكمة في جميع هذه الحكايات اعتبار من سمعها ووعاها وتعريف أن العصيان سبب الحرمان عن الخيرات وسد لجميع أبواب السعادات ولهذا قال (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) أي جنسها أو القرى المذكورة في قوله وما أرسلنا في قرية (آمَنُوا) بما يجب به الإيمان في باب المبدأ والمعاد (وَاتَّقَوْا) كل ما نهى الله عنه (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي لأتيناهم بالخير من كل وجه أو أراد القطر والنبات. والمراد بفتح البركات عليهم تيسير أسباب النجاح كقولهم : فتحت على القارئ إذا يسرت القراءة عليه بالتلقين (وَلكِنْ كَذَّبُوا) الرسل (فَأَخَذْناهُمْ) بالجدب والمحل وهو ضد البركة والخير (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بشؤم كسبهم وهو الكفر والمعاصي. ثم خوف المكلفين نزول العذاب عليهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة وهو حال النوم بالليل وحال الضحى بالنهار ، لأنه الوقت الذي يغلب على المرء فيه التشاغل باللذات والمهمات فقال (أَفَأَمِنَ) قال في الكشاف : الهمزة للإنكار والفاء للعطف على قوله (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) والآية بينهما اعتراض والتقدير : أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا ، وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى؟ فلهذا عطف الثانية بالواو. وأما قوله (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) فتكرير لقوله (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) فلهذا رجع فعطف بالفاء. قلت : يجوز أن يقدّر المعطوف عليه بعد الهمزة والمعنى : أفعلوا ما فعلوا فأمن وأما من قرأ «أو» ساكنة فمعناه إما أحد الشيئين ويرجع المعنى إلى قولنا فأمنوا إحدى هذه العقوبات ، وإما للإضراب كما تقول : أنا أخرج ثم تقول أو أقيم. على أن المراد هو الإضراب عن الخروج وإثبات للإقامة أي لا بل أقيم. ومعنى (بَياتاً) قد تقدم في أوّل السورة. و (ضُحًى) نصب على الظرف قال الجوهري : ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى وهو حين تشرق

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب اللباس باب ٦٥. مسلم في كتاب الطهارة حديث ٥٢. الترمذي في كتاب الأدب باب ١٨ النسائي في كتاب الطهارة باب ١٤. أحمد في مسنده (٢ / ١٦ ، ٥٢).

٢٩١

الشمس مقصورة ، وتذكر على أنه مفرد كصرد وتؤنث على أنها جمع ضحوة. ثم بعده الضحاء ممدودا مذكرا وهو عند ارتفاع النهار الأعلى. في قوله (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) يحتمل التشاغل بما لا يجدي عليهم من أمور الدنيا فهي لهو ولعب ، ويحتمل خوضهم في كفرهم لأن ذلك كاللعب في أنه يضر ولا ينفع. ومكر الله كما تقدم في آل عمران عذاب بعد الاستدراج أو سمي جزاء المكر مكرا. عن الربيع بن خثيم أن ابنته قالت له : ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال : يا بنتاه إن أباك يخاف البيات يعني المذكور في الآية. اللهم اجعلنا من الخائفين العاقلين لا من الآمنين الغافلين. ثم لما بيّن حال المهلكين مفصلا ومحلا ذكر أن الغرض من القصص حصول العبرة للباقين فقال (أَوَلَمْ يَهْدِ) من قرأ بالياء ففاعله (أَنْ لَوْ نَشاءُ) والمعنى : أو لم يهد الذين يخلفون أولئك المتقدمين فيرثون أرضهم وديارهم هذا الشأن وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي بعقابها كما أصبنا من قبلهم. ومن قرأ بالنون فقوله (أَنْ لَوْ نَشاءُ) منصوب والهداية بمعنى التبيين على القراءتين ولهذا عدّي فعلها باللام ، والمفعول على القراءة الأولى محذوف والتقدير : أولم يكشف لهم الحال والشأن المذكور. وأما قوله (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) فإما أن يكون منقطعا عما قبله بمعنى ونحن نطبع كما مر في الوقوف ، وإما أن يكون متصلا بما قبله. قال الكشاف : وذلك هو يرثون أو ما دلّ عليه معنى (أَوَلَمْ يَهْدِ) كأنه قيل : يغفلون عن الهداية ونطبع. ثم قال : ولا يجوز أن يكون معطوفا على (أَصَبْناهُمْ) وطبعنا لأن القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم فيجري مجرى تحصيل الحاصل ولقائل أن يقول : لا يلزم من المذكور وهو كونهم مذنبين أن يكونوا مطبوعين ، فاقتراف الذنوب غير الطبع لأن يذنب أوّلا أو يكفر ثم يستمر على ذلك فيصير مطبوعا على قلبه. وأيضا جاز أن يراد لو شئنا لزدنا في طبعهم أو لأدمناه والله سبحانه أعلم بمراده. ثم أخبر عن الأقوام المذكورين تسلية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (تِلْكَ الْقُرى) وهي مبتدأ وخبر. وقوله يقص حال والعامل معنى اسم الإشارة ، أو خبر بعد خبر ، أو (الْقُرى) صفة لـ (تِلْكَ) و (نَقُصُ) خبر. وفائدة الإخبار على هذا التقدير ظاهرة. وأما على الأوّلين فترجع الفائدة إلى الحال أو الخبر الثاني كما ترجع إلى الصفة في قولك : هو الرجل الكريم. الحاصل أن تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك ، وأيضا خصصنا تلك القرى بقصص بعض أنبائها لأنهم اغتروا بطول الأمهال مع كثرة النعم وكانوا أقرب الأمم إلى العرب فذكرنا أحوالهم تنبيها على الاحتراز عن مثل أعمالهم. ثم عزى رسوله بقوله (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا) من قبل اللام لتأكيد النفي

٢٩٢

وأن الإيمان كان منافيا لحالهم. قال ابن عباس والسدي : فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بسبب تكذيبهم يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم أقروا باللسان كرها وأضمروا التكذيب. وقال الزجاج : فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات بما كذبوا به من قبل رؤية تلك المعجزات. وعن مجاهد : فما كانوا ليؤمنوا لو أحييناهم بعد الإهلاك ورددناهم إلى دار التكليف بما كذبوا من قبل كقوله (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] وقيل : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما كذبوا من قبل مجيئهم. وقيل : ما كانوا ليؤمنوا في الزمان المستقبل بما كذبوا به في الزمان الماضي أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إلى أن ماتوا مصرين لم ينجع فيهم تكرير المواعظ وتتابع الآيات (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الطبع الشديد (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) الذي كتب أن لا يؤمنوا أبدا. والطبع والختم والرين والكنان والغشاوة والصد والمنع واحد كما سلف. وقال الجبائي : هو أن يسم قلوب الكفار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أن صاحبها لا يؤمن. وقال الكعبي : إنما أضاف الطبع إلى نفسه لأجل أن القوم إنما صاروا إلى ذلك الكفر عند أمره وامتحانه فهو كقوله تعالى (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٦] ثم شرح حال المكلفين فقال (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) والضمير للناس على الإطلاق. قال ابن عباس : يعني بالعهد قوله للذر (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] أقروا به ثم خالفوا. عن ابن مسعود هو الإيمان كقوله (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) [مريم : ٨٧] يعني من قال لا إله إلا الله. وقيل : العهد عبارة عن الأدلة على التوحيد والنبوّة والمراد الوفاء بالعهد (وَإِنْ وَجَدْنا) هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة في قوله (لَفاسِقِينَ) وقد عملت في ضمير شأن مقدر والتقدير : وإن الشأن والحديث علمنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والآية اعتراض. ويحتمل أن يعود الضمير على الأمم المذكورين كانوا إذا عاهدوا الله في ضرر ومخافة لئن أنجيتنا لنؤمنن نكثوه بعد كشف الضر.

التأويل : (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) الوفي يتضرع إليه عند البلاء ويتوكل عليه والعدوّ يذهل عن الحق ولا يرجع إليه (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) يعني صفات النفس (آمَنُوا) بما يرد إلى صفات القلب والروح من ألطاف الحق (وَاتَّقَوْا) مشتبهات النفس (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ) أسباب العواطف من سماء الروح وأرض القلب (فَأَخَذْناهُمْ) عاقبناهم بعذاب البعد بما كسبوا من مخالفات الحق وموافقات الطبع (بَياتاً) في صور القهر (ضُحًى) في صورة اللطف بسطوات الجذبات (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) يشتغلون بالدنيا. (إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) من أهل القهر هم الذين خسروا سعادة الدارين من أهل اللطف هم

٢٩٣

الذين خسروا الدنيا والعقبى وربحوا المولى (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ).

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦))

القراآت : (حَقِيقٌ عَلى) بالتشديد : نافع. الباقون : بالتخفيف (مَعِيَ) بفتح الياء حيث كان : حفص (أَرْجِهْ) بإسكان هاء الضمير : حمزة وعاصم غير المفضل (أَرْجِهْ) بكسر الجيم والهاء من غير إشباع : يزيد وقالون أرجهي بالإشباع : نافع غير قالون وعلي وعباس وخلف المفضل أرجئه بالهمزة : أبو عمرو غير عباس وسهل ويعقوب وابن الأخرم عن ابن ذكوان وهشام غير الحلواني أرجئهو بالإشباع : ابن كثير والحلواني عن هشام أرجئه بكسر الهاء : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان سحار بالمبالغة : حمزة وعلي وخلف وكذلك في يونس. وقرأ قتيبة ونصير والدوري وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو بالإمالة. الباقون (ساحِرٍ). (إِنَّ لَنا) بحذف همزة الاستفهام : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وحفص. أإن لنا بإثبات همزة الاستفهام : عاصم غير حفص وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام. يدخل بينهما مدة آين لنا المدة وقلب الهمزة ياء :

٢٩٤

أبو عمرو وزيد. أين لنا بالياء ولا مدة : سهل ويعقوب غير زيد (تَلْقَفُ) بالتخفيف حيث كان : حفص والمفضل (تَلْقَفُ) بالتشديد وإدغام التاء الأولى في الثانية : البزي وابن فليح. الباقون : بتشديد القاف وحذف تاء التفعل. (آمَنْتُمْ) بهمزة واحدة ممدودة : حفص. أأمنتم بزيادة همزة الاستفهام : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص. (آمَنْتُمْ) بالمد وتليين الهمزة : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير غير الهاشمي وابن مجاهد وأبي عون عن قنبل فرعون وآمنتم بالواو الخالصة : الهاشمي عن قنبل وآمنتم بالواو وتحقيق الهمزة الأولى : ابن مجاهد وأبو عون والهرندي عن قنبل.

الوقوف : (فَظَلَمُوا بِها) ج للفصل بين الخبر والطلب مع العطف بالفاء (الْمُفْسِدِينَ) ه (الْعالَمِينَ) ه ج وقف لمن قرأ (حَقِيقٌ عَلى) بالتشديد أي واجب عليّ ، ومن قرأه مخففا جاز له الوصل على جعل (حَقِيقٌ) وصف الرسول و «على» بمعنى الباء (إِلَّا الْحَقَ) ط (بَنِي إِسْرائِيلَ) ط (الصَّادِقِينَ) ه (مُبِينٌ) ه للفصل بين الجملتين والوصل أجود للجمع بين الحجتين (لِلنَّاظِرِينَ) ه (عَلِيمٍ) ه لا لأن ما بعده وصف لساحر (مِنْ أَرْضِكُمْ) ج لاحتمال أن ما بعده من تمام قول الملأ لفرعون وحده ، والجمع للتعظيم أوله ولعظمائه حضرته ، وأن يكون ابتداء جواب من فرعون أي فماذا تشيرون (قاهِرُونَ) ه (حاشِرِينَ) ه لا لأن ما بعده جواب الأمر (عَلِيمٍ) ه (الْغالِبِينَ) ه (الْمُقَرَّبِينَ) ه (الْمُلْقِينَ) ه (أَلْقُوا) ج للعطف (عَظِيمٍ) ه (عَصاكَ) ط لحق المحذوف لأن التقدير فألقاها فإذا هي (ما يَأْفِكُونَ) ه (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ه (صاغِرِينَ) ه ج لمكان حروف العطف (ساجِدِينَ) ه ج لاحتمال كون (قالُوا) حالا بإضمار «قد» (الْعالَمِينَ) ه لا للبدر (هارُونَ) ه (آذَنَ لَكُمْ) ج للابتداء مع اتحاد القائل (أَهْلَها) ج لأن «سوف» للتهديد مع العطف (تَعْلَمُونَ) ه (أَجْمَعِينَ) ه (مُنْقَلِبُونَ) ه للآية مع اتحاد المقول (جاءَتْنا) ط للعدول عن المحاباة إلى المناجاة (مُسْلِمِينَ) ه.

التفسير : القصة السابعة من قصص هذه السورة قصة موسى عليه‌السلام. وقد ذكر في هذه القصة من البسط والتفصيل ما لم يذكر في غيرها لأن جهل قومه أعظم وأفحش من جهل سائر الأقوام ولهذا كانت معجزاته أقوى من معجزات متقدميه من الأنبياء. والضمير في قوله (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) يعود إلى الرسل أو إلى الأمم المذكورين ، في قوله (بِآياتِنا) دلالة على كثرة معجزاته وأن النبي لا بد له من آية ومعجزة بها يمتاز عن المتنبي. (فَظَلَمُوا بِها) أي بتلك الآيات والمراد كفرهم بها لأن وضع الإنكار في موضع

٢٩٥

الإقرار وإيراد الكفر بدل الإيمان وضع للشيء في غير موضعه ، أو تظلموا الناس بسببها حين أوعدوهم وصدوهم عنها وأذوا من آمن بها. (فَانْظُرْ) أيها المعتبر المستبصر بعين بصيرتك (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) كيف فعلنا بهم؟ وهذه قصة إجمالية ثم شرع في تفصيلها وذلك قوله (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي إله قادر عليم حكيم. وفيه أن العالم موصوف بصفات لأجلها افتقر إلى رب يربيه (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ) من قرأ بالتشديد في (عَلى) و (حَقِيقٌ) إما بمعنى فاعل أي واجب عليّ ترك القول على الله إلا بالحق ، أو بمعنى مفعول أي حق عليّ ذلك. تقول العرب إني لمحقوق على أن أفعل خيرا. وأما قراءة العامة (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ) مرسلة الياء ففيه وجوه أحدها : أن يكون «علي» بمعنى «الباء» كقولهم جئت على حال حسنة وبحال حسنة ، قال الأخفش : وهذا كما قال (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) [الأعراف : ٨٦] أي على كل صراط ويؤكد هذا الوجه قراءة أبيّ حقيق بأن لا أقول أي أنا خليق بذلك. وثانيها : أن الحق هو الدائم الثابت والحقيق مبالغة فيه ، وكل ما لزمك فقد لزمته فكأن المعنى أنا ثابت مستمر على أن لا أقول إلا الحق. وثالثها : أن يضمن حقيق معنى حريص. ورابعها : أن يكون من القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس فيؤل المعنى إلى قراءة نافع. وخامسها : أن يكون إغراقا في الوصف ومبالغة بالصدق والمراد أنا حقيق على قول الحق أي واجب عليّ أن أكون أنا قائله والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقا به. وسادسها : أن يكون على هذه هي التي تقرن بالأوصاف اللازمة الأصلية كقوله تعالى (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : ٣٠] ويقال : جاءني فلان على هيئته وعلى عادته وعرفته وتحققته على كذا وكذا من الصفات. فمعنى الآية لم أتحقق إلا على قول الحق. ولما كان ظهور المعجزة على وفق الدعوى دالا على وجود الإله القادر المختار وعلى تصديق الرسول جميعا قال (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي بمعجزة قاهرة باهرة منه. ثم فرع عليه تبليغ الحكم وهو قوله (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أطلقهم وخل سبيلهم حتى يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم. وذلك أن يوسف عليه‌السلام لما توفي وانقرضت الأسباط غلب فرعون نسلهم واستعبدهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيه سؤالان : أحدهما لفظي وهو أن هاهنا شرطين فأين جوابهما؟ والجواب أن المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى نظيره قول القائل : إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيدا. وثانيهما : أن قوله (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ) وقوله (فَأْتِ بِها) كلاهما واحد في المعنى فكيف يفيد تعليق أحدهما بالآخر؟ وجوابه المنع إذ المراد إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فأحضرها لتصح دعواك. ثم

٢٩٦

إن فرعون لما طالب موسى عليه‌السلام بإقامة البينة الدالة على وجود الرب وعلى صحة نبوته قلب العصا ثعبانا وأظهر اليد البيضاء وذلك قوله سبحانه (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) ومعنى كون الثعبان مبينا أن أمره ظاهر لا يشك في أنه ثعبان ليس مما جاءت به السحرة من التمويهات وإنما هو من قبيل المعجزات ، أو المراد أنه أبان قول موسى عن قول المدعي الكاذب والثعبان في اللغة الحية الضخم الذكر. روي أنه كان أشقر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحيه الأسفل على الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون ليأخذه فوثب فرعون من سريره وهرب وأخذه البطن يومئذ أربعمائة مرة وكان لم ير منه الحدث قبل ذلك. وهرب الناس وصاحوا وحمل على الناس فانهزموا ومات منهم خمسة وعشرون ألفا ، ودخل فرعون البيت وصاحوا يا موسى خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل ، فأخذه موسى فعاد عصا. والنزع في اللغة القلع والإخراج أي أخرجها من جيبه أو من جناحه بدليل قوله في موضع آخر (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ) [النمل : ١٢] روي أنه أرى فرعون يده وقال : ما هذه؟ فقال : يدك. ثم أدخلها في جيبه وعليه مدرعة صوف ثم نزعها فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا غلب شعاعها الشمس ، وكان موسى عليه‌السلام آدم شديد الأدمة وقوله (لِلنَّاظِرِينَ) يتعلق ببيضاء فإنها لا تكون بيضاء للناظرين إلا إذا كان بياضها عجيبا خارجا عن العادة اجتمع الناس للنظر إليه كما يجتمعون للعجائب. واعلم أن القول بجواز انقلاب العادات عن مجاريها مقام صعب مشكل ولهذا اضطربت أقوال العلماء فيه ؛ فالأشاعرة جوّزوا ذلك على الإطلاق بناء على القول بالفاعل المختار فجوّزوا في الإنسان وسائر أنواع الحيوان أن يتولد دفعة واحدة من غير سابقة مادة ومدة ، وجوّزوا في الجوهر الفرد أن يكون حيا عالما قادرا قاهرا من غير حصول بنية ولا مزاج ، وجوّزوا في الأعمى الذي بالأندلس أن يبصر في ظلمة الليل البقة التي تكون بأقصى المشرق وفي سليم البصر أن لا يرى الشمس في كبد السماء من غير حائل. والمعتزلة جوّزوا انخراق العادات في بعض الصور دون بعض من غير ضابط ولا قانون اللهم إلا أن يحال على الشرع ، والطبيعيون المتفلسفون أنكروا ذلك على الإطلاق وزعموا أنه لا يجوز حدوث الأشياء ودخولها في الوجود إلا على هذا الوجه المخصوص والطريق المعين والإلزام فتح باب الجهالات فإنه إذا جاز أن تنقلب العصا ثعبانا جاز في الشخص الذي شاهدناه كموسى وعيسى ومحمد مثلا أنه ليس هو الشخص الأوّل وهذا يوجب القدح في النبوة والرسالة. فإن زعم زاعم أن هذه الأمور تختص بزمان دعوة الأنبياء. قلنا : المخصص في ذلك

٢٩٧

الزمان لا يعرف إلا بدليل غامض ، وكل من لا يقف على ذلك الدليل يقع في تيه الإشكال والضلال مع أن زمان جواز الكرامات لا ينقرض عندكم أبدا فلا ينقضي التجويز سرمدا. هذا وإنما جمع بين العصا واليد مع أن المعجز الواحد كاف لأن كثرة الدلائل توجب مزيد اليقين. قال بعض المتحذلقين : هما شيء واحد والمراد أن حجة موسى كانت قوية ظاهرة فمن حيث إن الحجة أبطلت أقوال المخالفين كانت كالثعبان الذي يلقف ما يأفكون ، ومن حيث إنها كانت ظاهرة في نفسها وصفت باليد البيضاء كما يقال لفلان يد بيضاء في الأمر الفلاني أي قوّة كاملة ومرتبة ظاهرة. والتحقيق أن انقلاب العصا وغير ذلك أمور ممكنة في ذواتها لأن الأجسام متماثلة في الجسمية فكل ما صح على شيء صح على مثله والله سبحانه قادر على كل الممكنات ، فكل ما ثبت وقوعه بالتواتر وجب قبوله من غير تأويل ودفع ، ثم أن السحر كان غالبا في ذلك الزمان وكانت السحرة متفاوتين في ذلك ، فزعم أتباع فرعون أن موسى عليه‌السلام كان لكونه في النهاية من علم السحر أتى بتلك الصفة وأنه كان يطلب بذلك الملك والرياسة وذلك قوله سبحانه (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) ولا ينافي هذا ما حكاه الله تعالى في سورة الشعراء أنه قال ذلك فرعون ، فإنه يحتمل صدور هذا القول في تلك الحالة منه ومنهم أو لعل فرعون قاله ابتداء فتلقفه الملأ فقالوه لغيرهم ، أو قالوا عنه لسائر الناس على طريق التبليغ فإن الملوك إذا رأوا رأيا ذكروه للخاصة وهم يذكرونه للعامة. والأظهر أن قوله (فَما ذا تَأْمُرُونَ) من كلام فرعون إما لأن الأمر لا يجوز أن يكون من الأدنى للأعلى ، أو لأنه من قولهم أمرته فأمرني بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأي ولهذا قال الملأ في جوابه (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أي أخر أمره وأمر أخيه ولا تعجل بقضاء في شأنهما فتصير عجلتك حجة عليك. قال الجوهري : أرجأت الأمر وأخرته يهمز ولا يهمز. وعن الكلبي وقتادة أن المعنى أحسبه ، وزيف بأنه خلاف اللغة إلا أن يقال حبس المرء نوع من التأخير في أمره وبأن فرعون ما كان يظن أنه قادر على حبس موسى بعد مشاهدة حال العصا. (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي جامعين جمع مدينة وهي فعلية من مدن بالمكان يمدن مدونا إذا أقام به ، ولهذا أطبق القراء على همز (الْمَدائِنِ) لأنه كصحائف. وقيل : إنها مفعلة من دنت أي ملكت وكأن هذا القائل لا يهمز مدائن. وقال المبرد : أصلها مديونة من دانه إذا قهره وساسه ، فعل بها ما فعل بنحو «مبيع» في «مبيوع» وليس المراد مدائن الأرض كلها ولكن المقصود مدائن صعيد مصر. وقال ابن عباس : وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ) الباء بمعنى «مع» أو للتعدية. قيل : كانوا سبعين ساحرا سوى رئيسهم.

٢٩٨

وقيل : بضعة وثلاثين ألفا. وقيل : سبعين إلفا. وقيل ثمانين ألفا وقيل : كان يعلمهم مجوسيان من أهل نينوى قرية بقرب الموصل. وضعف بأن المجوس من أتباع زرادشت وهو إنما جاء بعد موسى. وفي الآية دلالة على كثرة السحرة في ذلك الزمان ولهذا كانت معجزة موسى شبيهة بالسحر وإن كانت مخالفة في الحقيقة كما أن الطب لما كان غالبا على أهل زمن عيسى كانت معجزته من جنس ذلك كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وكانت الفصاحة والبلاغة غالبة في عصر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا جرم كانت معجزته العظمى وهي القرآن من جنس الفصاحة ، وتحقيق السحر وسائر ما يتعلق به قد مر في سورة البقرة فليتذكر (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا) لم يقل فقالوا بناء للكلام على سؤال مقدر كأن سائلا سأل ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب (قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً) أي جعلا على الغلبة والتنكير للتعظيم كقول العرب إن له لإبلا وإن له لغنما يقصدون الكثرة (قالَ نَعَمْ) أي إن لكم أجرا (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أراد إني لا أقتصر لكم على الثواب بل لكم مع ذلك ما يقل معه الثواب وهو التقريب والتكريم لأن الثواب إنما يهنأ إذا كان مقرونا بالتعظيم. روي أنه قال لهم تكونون أوّل من يدخل وآخر من يخرج. وروي أنه دعا برؤساء السحرة فقال لهم : ما صنعتم؟ قالوا قد عملنا سحرا لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء فإنه لا طاقة لنا به. وفي الآية إشارة إلى أن أهل السحر ليسوا قادرين على قلب الأعيان وإلا قلبوا الحجر ذهبا بل قلبوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولم يطلبوا منه الأجر ، فعلى العاقل أن لا يغترّ بأكاذيبهم ومزخرفاتهم. ثم إن السحرة راعوا حسن الأدب فخيروا موسى أوّلا وقدموه في الذكر ثانيا حيث قالوا (يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) كما هو دأب المتناظرين والمتصارعين ، مع أن في قولهم (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ) بالأمر أليق منه بالخبر. وبدليل قوله (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) وفيه ترغيب في الثبات على الجهاد. فمعنى الآية إذن إن يكن منكم عشرون فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يغلبوا مائتين ، ثم الصبر لا يحصل إلا بكونه شديد الأعضاء قويا جلدا شجاعا غير جبان ولا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ، وعند حصول هذه الأمور كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة لما سبق من وعد النصر في قوله (حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ٦٤] وإنما كرر النسبة مرتين لأن السرايا التي كان يبعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا ينقص عددها على العشرين وما كانت تزيد على المائة فورد على وفق الواقعة ، وإما في الكرة الثانية فإنما كررت النسبة للطباق وليكون فيه بشارة وإشارة إلى أن عدد عسكر الإسلام سيؤول من العشرات والمئات إلى الألوف والله أعلم بمراده. ثم بين السبب في

٢٩٩

الغلبة فقال (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) [الأنفال : ٦٥] أي بسبب أن الكفار قوم جهلة لا يعرفون معادا وقد انحصرت السعادة عندهم في هذه الحياة العاجلة. وأيضا إنهم يعولون على قوتهم وشوكتهم والمسلمون يتوكلون على ربهم ويستغيثونه ويتوقعون منه إنجاز ما وعد من النصر والتأييد ، ووجه آخر هو أن أهل العلم والمعرفة يكون لهم في أعين الناس هيبة وحشمة ويكونون في أنفسهم أقوياء أشداء لما تجلى عليهم من أنوار المعرفة والبصيرة يعرف ذلك أصحاب العلوم وأرباب المعارف بخلاف الجهلة الذين لا بصيرة لهم ولا نور. قال عطاء : عن ابن عباس لما نزل التكليف الأول ضج المهاجرون وقالوا : يا رب نحن جياع وعدوّنا شباع ونحن في غربة وعدونا في أهليهم. وقال الأنصار : شغلنا بعدوّنا وواسينا إخواننا. وعن ابن جريج كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد للعشرة وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث حمزة في ثلاثين راكبا قبل بدر فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب وأرادوا قتالهم فمنعهم حمزة. وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن أنيس إلى خالد بن صفوان وكان في جماعة وابتدر عبد الله فقال : يا رسول الله صفه لي فقال : إنك إذا رأيته ذكرت الشيطان ووجدت لذلك قشعريرة. وبلغني أنه جمع لي فأخرج إليه وأقتله ، فلما خرجت تعمية للمأفوك بالإفك. قال المفسرون : لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم ، فلما أخذها موسى صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم والمقدار أصلا ، فلعل الله سبحانه أعدم بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرقها أجزاء لطيفة ثم قال سبحانه وتعالى (فَوَقَعَ الْحَقُ). قال مجاهد والحسن : ظهر ، وقال الفراء : فتبين الحق من السحر. وقيل : الوقوع ظهور الشيء ووجوده نازلا إلى مستقره. وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا : لو كان ما صنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا ولم تفقد ، ولما فقدت ثبت أن ذلك بخلق الله وتقديره وبهذا تميز المعجزة عن السحر. وقال القاضي : معناه قوة الظهور بحيث لا يصح فيه نقيضه كما لا يصح في الواقع أن يصير لا واقعا. ومع ثبوت هذا الحق زالت الأعيان التي أفكوها وهي تلك الحبال والعصي وذلك قوله (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي الذي عملوه أو عملهم (فَغُلِبُوا هُنالِكَ) أي حين التحدي (وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) لأنه لا ذل ولا صغار أعظم من حق المبطل من دحوض حجته. روي أن تلك الحبال والعصي كانت حمل ثلاثمائة بعير ، فلما ابتلعها ثعبان موسى وصارت عصا كما كانت قال بعض السحرة لبعض : هذا خارج عن حد السحر وإنما هو أمر إلهي. قال المحققون : إنهم لأجل كمالهم في علم السحر ميزوا السحر عن غيره فانتقلوا ببركة ذلك من الكفر إلى الإيمان ، فما ظنك بالإنسان

٣٠٠